الرأسمالية والكتابة الإبداعية

الرأسمالية والكتابة الإبداعية

الرأسمالية والكتابة الإبداعية: كيف تحوّل الفن إلى صناعة؟

من الفن إلى السّلعة: تسليع الإبداع تحت الرأسمالية

  • لطالما اعتُبرت الكتابة الإبداعية فنًا للتعبير عن الأفكار والمشاعر الإنسانية. لكن في ظل النظام الرأسمالي الحديث، تحوّل هذا الفن تدريجيًا إلى سلعة تجارية تُنتَج من أجل البيع والربح. يشير فلاسفة «مدرسة فرانكفورت» إلى ظهور ما يسمى “الصناعة الثقافية” منذ أوائل القرن العشرين، حيث أصبحت الثقافة نفسها سلعة تُنتج بكميات ضخمة لتلبية احتياجات السوق، يرى تيودور أدورنو ورفيقه ماكس هوركهايمر أن تحويل الإنتاج الثقافي إلى صناعة ربحية غيّر طبيعة الثقافة، فأصبحت أداة للسيطرة الأيديولوجية وحفظ النظام القائم، أي أن كل أشكال الفن – من الأدب إلى السينما والموسيقى – اندمجت في اقتصاد السوق الاستهلاكي. هكذا تسلع الفنون عبر “تحويل كل نشاط فكري أو ثقافي إلى سلعة تجارية لها قيمة في السوق وهدفها الربح المادي” ونتيجةً لذلك حُوِّلت القيمة الجمالية والإبداعية للفن إلى قيمة نقدية خاضعة لقوانين الاقتصاد.
  • هذه العملية تجعل الفن يفقد جزءًا من جوهره الإنساني. يحذّر ناقدون من أن الرأسمالية حوّلت الإنسان نفسه إلى كائن استهلاكي جشع يلهث وراء التملّك، ضمن هذه البيئة، يتحوّل المبدع أيضًا إلى كائن نفعيّ يوجّه إبداعه وفق بوصلة السوق بدلًا من دوافع التعبير الفني الخالص.
  • بمعنى آخر، بات على الكاتب أو الفنان أن يفكّر في متطلبات الجمهور والسوق قبل فكرته الإبداعية الذاتية. ثقافة المستهلكالتي أفرزها الاقتصاد الرأسمالي تجعلنا ننظر إلى الإبداع كمنتج يجب توفيره حسب الطلب؛ حتى أن الجمهور نفسه أصبح أحيانًا يشعر بـ“الاستحقاق” للحصول على المزيد من الأعمال من المؤلفين المفضلين لديه في أسرع وقت ممكن. وقد علّق الكاتب نيل غيمان ذات مرة منتقدًا مطالبة الجمهور للروائي جورج مارتن بالإسراع في إصدار الجزء الجديد من سلسلته الشهيرة، قائلاً بلهجة حادة: "جورج مارتن ليس خادمًا لكم... الكتّاب والفنانون ليسوا آلات" جاءت هذه الكلمات لتذكّر بأن الإبداع عملية عضوية شخصية وليست عقدًا تجاريًا ملزمًا للمنتج والمستهلك.

هيمنة رأس المال على صناعة الأدب والنشر

  • في مجال الأدب والنشر، تظهر بوضوح آثار تحول الكتابة إلى صناعة مدفوعة بالربح. قبل نصف قرن تقريبًا، كان معظم دور النشر مستقلاً. ثم بدأت حقبة الاستحواذات الكبرى في الستينيات، حيث اشترت الشركات الضخمة العديد من دور النشر الصغيرة. وبحلول عام 2007، أصبحت 80% من الكتب المعروضة في المكتبات صادرة عن ستة تكتلات شركات عملاقة فقط.
  • هذا التركّز الكبير في الصناعة جعل التحكم بسوق الكتاب بيد قلة من الشركات متعددة الجنسيات. وقد دقّ الكثير من الأدباء ناقوس الخطر منذ عقود؛ فمثلاً إدوارد دكتورو حذّر في شهادة أمام مجلس الشيوخ الأميركي عام 1980 من أن “تركّز إنتاج وتوزيع العمل الأدبي في أيدٍ قليلة يقيّد بطبيعته حرية التعبير وتنوّع الآراء” بمعنى أن احتكار الشركات الكبرى لسوق النشر قد يؤدي إلى التضييق على الأصوات الجديدة أو غير التجارية، وحصر ما يُنشر فيما يحقق مبيعات أكيدة.
  • بالمقابل، دافعت دور النشر الكبرى آنذاك بأن اندماجها أدّى في الواقع إلى نشر كتب متنوعة أكثر من أي وقت مضى قد يكون صحيحًا أننا نشهد اليوم صدور كتب من شتى الأنواع والاهتمامات، لكن الجزء الأكبر من الاهتمام الإعلامي والتسويقي يذهب إلى عدد محدود من الأعمال الرائجة تجاريًا. صارت صناعة الكتاب تركز على الروايات الأكثر مبيعًا والموضوعات التي ترضي أذواق الجمهور الواسع، وأحيانًا على حساب الجرأة والتجريب الفني. ونتيجة هذا الواقع انقسم المشهد الأدبي إلى مسارين: إبداع تجاري جماهيري مدعوم من دور النشر الضخمة، مقابل إبداع مستقل غير ربحي يجد منفذه في دور نشر صغيرة أو برامج الكتابة الأكاديمية، بهذا الشكل استطاع السوق أن يستوعب حتى التيارات الأدبية المعارضة ويعيد إنتاجها ضمن إطار تجاري – وهي ظاهرة أشار إليها الباحثون بأنها احتواء للمتمردين السابقين ضمن مؤسسات الاقتصاد الثقافي السائد.
  • جدير بالذكر أيضًا هيمنة منصات التوزيع الكبرى على المشهد، مثل هيمنة شركة أمازون على مبيعات الكتب عالميًا. إذ تقدّر بعض الإحصاءات الحديثة أن حوالي 65% من مبيعات الكتب الجديدة (ورقيًا ورقميًا) تتم عبر منصة أمازون لوحدها، هذا النفوذ التوزيعي لشركات التكنولوجيا يضيف بُعدًا آخر لتحويل الكتابة إلى تجارة، حيث تصبح خوارزميات المنصات وتقييماتها عاملًا في تحديد نجاح الكتاب من عدمه.

عصر المحتوى الرقمي: الكاتب بين الإبداع والتسويق

  • لم يقتصر تحول الكتابة إلى صناعة على الكتب المطبوعة، بل ازداد وضوحًا مع الثورة الرقمية. دخلنا عصر صناعة المحتوى الرقمي، حيث أصبح كاتب المحتوى الرقمي مهنة بحد ذاتها، يعمل الكثيرون فيها لتلبية الطلب الهائل على المقالات والمنشورات والفيديوهات التسويقية. تشير الإحصاءات إلى أن صناعة تسويق المحتوى العالمية تجاوزت قيمتها 82 مليار دولار حاليًا، ومتوقع أن تصل إلى 107 مليارات دولار بحلول عام 2026، هذه الأرقام الضخمة تعكس مدى استثمار الشركات في إنتاج محتوى لجذب المستهلكين وتعزيز المبيعات. ولم يعد الأمر مقتصرًا على الشركات الإعلامية، بل معظم الشركات في مختلف القطاعات باتت تعتبر المحتوى جزءًا أساسيًا من استراتيجيات التسويق لديها. في عام 2025 مثلاً، 90% من المسوِّقين يؤكدون أنهم يدرجون المحتوى كعنصر رئيسي في خططهم التسويقية.
  • في ظل هذا الطلب التجاري، تغيرت طبيعة كثير من الكتابات. أصبحت معايير نجاح المقال أو القصة على الإنترنت تُقاس بعدد النقرات والمشاهدات والتفاعل، أكثر من قيمتها الأدبية أو الفكرية. كثيرًا ما يُطلب من كاتب المحتوى اتباع قواعد تحسين محركات البحث (SEO)، أي تضمين كلمات مفتاحية رائجة (مثل تلك المطلوبة لهذا المقال) وصياغة العناوين بشكل جذّاب لضمان ظهور المحتوى في نتائج البحث وجذب الجمهور المناسب. وهكذا بات الكاتب ملزَمًا بمراعاة “خوارزميات” المنصات الرقمية وأمزجة الجمهور لضمان الانتشار. يصف البعض هذا التحوّل بأنه انتقال من “الكتابة الإبداعية” إلى “كتابة لإنتاج المحتوى”؛ أي من كتابة نابعة من ذات الكاتب إلى كتابة موجّهة بالكامل لإرضاء القارئ كعميل فـ المحتوى يُنتَج ليُناسب ذوق المستهلك ويحقق الانتشار والربح، بينما “الفن” يُنتج بدافع ذاتي لدى الفنان لإشباع حاجة إبداعية بغض النظر عن السوق.
  • إن القرارات الإبداعية في نموذج المحتوى تُتّخذ وفي الذهن توقعات الجمهور المستهدف، أما في النموذج الفني الصرف فتنبع القرارات من رؤية المبدع نفسه. كذلك، يُضخ المحتوى بوتيرة سريعة تحت ضغط جداول النشر والعقود وإرضاء “آلهة الخوارزميات” الرقمية، في حين أن الفن الحقيقي ليس مقيدًا بإنتاجية محددة أو مواعيد تسليم.
  • وقد بلغت هذه النزعة الصناعية ذروتها مع دخول الذكاء الاصطناعي ميدان الكتابة. في السنوات الأخيرة انتشرت أدوات الكتابة بالذكاء الاصطناعي القادرة على توليد مقالات ونصوص آليًا خلال ثوانٍ. المذهل أن غالبية العاملين في تسويق المحتوى باتوا يتبنون هذه الأدوات: نحو 90% من كتّاب المحتوى أفادوا أنهم سيستخدمون الذكاء الاصطناعي لدعم جهودهم في إنشاء المحتوى بحلول 2025، الهدف بالطبع هو زيادة الإنتاج وسرعة التنافس؛ فالشركات تسعى لنشر أكبر قدر ممكن من المواد لجذب الجمهور قبل غيرها. صحيح أن هذه التقنيات قد تساهم في إنجاز المهام الروتينية بسرعتها، لكنها أيضًا تؤكد الطابع الصناعي للعملية الإبداعية اليوم. إذ أصبح بالإمكان “مصنعة” الكتابة نفسها وضخها كما تضخ السلع، مما يثير التساؤل حول مصير الجودة والأصالة وسط سباق الكمية والسرعة.

السينما والترفيه: النص تحت وصاية شباك التذاكر

  • ربما تكون السينما مثالًا آخر صارخًا على هيمنة منطق السوق على الإبداع. كتابة السيناريوهات والأعمال الدرامية اليوم تخضع بشكل كبير لمعادلة الربح المتوقع في شباك التذاكر أو نسب المشاهدة. هوليوود على سبيل المثال تعتمد بصورة متزايدة على السلاسل السينمائية والأجزاء الثانية والثالثة بدلاً من القصص الأصلية الجديدة. وفق تحليل حديث، من بين أعلى 60 فيلمًا تحقيقًا للإيرادات في السينما العالمية منذ 2016 لم يكن هناك سوى 5 أفلام فقط بقصة أصلية تمامًا – أما الأفلام الباقية فجميعها كانت أجزاء تكملة أو تنتمي لسلاسل وعوالم سينمائية معروفة، هذا الرقم الصادم يوضح كيف تفضّل الاستوديوهات الاستثمار في عناوين مأمونة الجانب جماهيريًا (تكملة لنجاحات سابقة أو إعادة إنتاج عمل ناجح) بدل المجازفة بأفكار جديدة. المنتجون يدركون أن الجمهور يميل لمتابعة الشخصيات والعوالم التي يعرفها مسبقًا، ما يجعل التكملة “رهانًا آمنًا” من منظور تجاري، وكما يشرح أحد منتجي الأفلام: الأمر في جوهره مالي بحت؛ إصدار فيلم له شعبية معروفة يعتبر رهانًا أكثر أمانًا في سوق مزدحم وصعب الترويج.
  • هذه العقلية أدت إلى انتشار ما يُسمى "ثقافة الجزء الثاني" في السينما والتلفزيون. فعندما يحقق فيلم أو مسلسل نجاحًا كبيرًا، يُسارع المنتجون لطلب جزء جديد بغض النظر عما إذا كانت القصة الأصلية تستحق الاستكمال فنيًا. وبالتالي يعمل كُتّاب السيناريو تحت ضغط تقديم حبكات تُكرّر النجاح السابق دون مخاطرة كبيرة، مما قد يحدّ من حريتهم الإبداعية. حتى في مجال المسلسلات نرى الميل لتمطيط المواسم بناءً على شعبيتها التجارية أكثر من الحاجة الدرامية للقصة. وكل ذلك يؤكد أن الكتابة السينمائية أيضًا أصبحت “طلب السوق” قبل أن تكون رؤى فنية.
  • لا شك أن لهذه الظاهرة جوانب إيجابية أيضًا؛ فقد أدت صناعة الترفيه الضخمة إلى إنتاج كم كبير من الأعمال وإتاحة الفن لجمهور أوسع حول العالم. فالروايات والأفلام باتت اليوم أكثر انتشارًا وسهولة وصول بفضل الإنتاج الجماهيري والسوق العالمية. يجادل بعض النقاد بأن تسليع الثقافة ساهم أحيانًا في ديمقراطية الثقافة، حيث لم يعد الفن حكرًا على النخب القادرة على الدفع. على سبيل المثال، الأعمال الفنية كلوحات الرسم الرفيعة كانت قديمًا حكرًا على الأثرياء، أما اليوم فبفضل النسخ المطبوعة يمكن لأي عائلة اقتناء لوحة معروفة بصورة مكررة.
  • وهكذا فإن إنتاج الثقافة بكميات كبيرة وتوزيعها تجاريًا قد يجعلها في متناول شرائح أوسع من الناس. لكن التحدي يكمن في تحقيق توازن بين الكم والنوع؛ أي بين الوصول الجماهيري وبين الحفاظ على الجوهر الإبداعي الأصيل.

هل يمكن إنقاذ روح الإبداع ؟

  • في مواجهة هذه الضغوط التجارية الهائلة، يحاول العديد من الكتّاب والمبدعين الحفاظ على روح الفن وسط الصناعة. البعض يلجأ للمؤسسات الأكاديمية أو المشاريع المستقلة للحصول على مساحة حرية أكبر للإبداع بعيدًا عن حسابات السوق. آخرون يتبنّون استراتيجيات جديدة تمزج بين الفني والتجاري بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر. على سبيل المثال، هناك دور نشر مستقلة ومجلات أدبية تحظى بدعم غير ربحي لتطوير أدب نوعي بعيد عن مطرقة المبيعات الفورية. وفي السينما، نشهد أحيانًا أفلامًا منخفضة الميزانية تخرج عن المألوف التجاري وتلقى ترحيبًا نقديًا وجماهيريًا، مما يدل على أن الجمهور نفسه يقدّر الأصالة عندما تتاح له الفرصة.
  • في النهاية، لا يمكن إنكار أن الرأسمالية غيّرت مشهد الكتابة الإبداعية جذريًا. أصبحت الكتابة “صناعة المحتوى” تعجّ بالملايين من العاملين، وتحولت القصيدة والقصة والمقال من مجرد إبداع فردي إلى مكوّن في اقتصاد عالمي للترفيه والمعرفة. هذا التحول يحمل إيجابياته في نشر الثقافة وتوفير فرص العمل، لكنه يفرض تحديات كبرى على نوعية الإبداع وحرية الفنان. يبقى الرهان اليوم على قدرة المبدعين أنفسهم والجمهور الواعي على إيجاد مساحة يتنفس فيها الفن كفن، لا كمجرد سلعة – مساحة تتضافر فيها جهود الكتّاب والمبدعين والمهتمين بمجال صناعة المحتوى والسينما والأدب والتسويق للحفاظ على جوهر الإبداع الإنساني، حتى وهو يسير وسط ضجيج المصنع وبريق السوق.

المراجع:

1. عليوي الذرعي، «تسليع الفن.. بين الضرورة الاقتصادية والانحدار الإبداعي»، تلفزيون سوريا 12 يونيو 2022 syria.tvsyria.tv

2. Dan Sinykin, “How Capitalism Changed American Literature,” Public Books July 20193quarksdaily.com3quarksdaily.com.

3. Max Haiven, “What is the Fate of Creativity Under Capitalism?” PlutoPress blog (Sept. 2018)maxhaiven.com.

4. آية mala، «Creativity under Capitalism: Commodification, Contentification & Alienation» (مدونة شخصية، 2023)ariamala.comariamala.com.

5. Katelyn Kemmerle, "Content Marketing Insights for 2025," Sagapixel (2024)sagapixel.comsagapixel.com.

6. David Timm, "50 AI Writing Statistics to Know in 2025," Siege Media (June 17, 2025)siegemedia.com.

7. Alexandra Canal, "Hollywood relies on sequels – here’s why," Yahoo Finance via LinkedIn (2023)linkedin.com.

8. Toner Buzz, "Eye-Popping Book and Reading Statistics [2023]" (Jan 11, 2023)tonerbuzz.com.