هل الثقافة السعودية مصدر للإلهام؟

هل الثقافة السعودية مصدر للإلهام؟

هل الثقافة السعودية مصدر للإلهام؟ 

 

  • تشهد الثقافة السعودية اليوم مرحلة حيوية ونشطة في شتى مجالاتها الإبداعية بأصالتها وعمقها التاريخي، إذ باتت منبعًا ثريًا يستلهم منه المبدعون أفكارهم في التصميم، والكتابة والأدب، وكذلك في السينما. تتميز الثقافة السعودية بتنوع عناصرها من تراث معماري وفني، ولغة عربية ثرية ولهجات محلية، وملابس تقليدية، وعادات وتقاليد عريقة، وموسيقى وفنون شعبية. هذا التنوع الفريد جعل من الثقافة السعودية وقودًا للإبداع المعاصر ومحورًا لمشاريع فنية وأدبية عديدة. في هذا المقال نستعرض كيف أصبحت الثقافة السعودية مصدرًا للإلهام في مجالات التصميم، والأدب والكتابة، والسينما، مع أمثلة واقعية لمشاريع تأثرت بالعناصر الثقافية المحلية بأسلوب مهني وجذاب ومتوازن. 

الإلهام في التصميم السعودي 

  • برزت في السنوات الأخيرة موجة من المصممين السعوديين الذين يمزجون التراث السعودي بالفنون المعاصرة في مجالات الأزياء والعمارة والديكور. لم يعد التراث مجرد خلفية جامدة، بل أصبح عنصرًا حيًّا في التصاميم الحديثة. على سبيل المثال، يستلهم مصممو الأزياء السعوديون الكثير من الرموز التقليدية كالأقمشة المزخرفة والنقوش التراثية. تؤكد مصممة الأزياء السعودية سجى اليوسف أن «التراث السعودي كنز يجب استثماره» مشيرةً إلى أنها تستوحي تصاميمها من الطبيعة والمعالم التراثية، وقد أعادت ابتكار تصميم البشت السعودي بأسلوب عصري، تُبرز اليوسف في تصاميمها هوية المملكة بشكل مختلف وغير معتاد يعكس تراثها، حيث ترى في عناصر مثل البشت الحساوي رمزًا للأصالة والفخر ومصدر إلهام للمصممين لمكانته التاريخية في الأزياء السعودية، هذا التوجه ليس معزولًا؛ فعديد من دور الأزياء المحلية دمجت التطريزات التقليدية والقطع التراثية في ملابس عصرية نالت رواجًا عالميًا. 
  • يُضاف إلى ذلك التصميم المعماري والداخلي المستوحى من التراث. تظهر أنماط الزخارف الهندسية والنباتية المستمدة من العمارة التقليدية في تصاميم حديثة كثيرة، مثل استخدام رواشين النوافذ الحجازية والأبواب النجدية المزخرفة في المباني والمنازل المعاصرة. كما عاد فن الزخرفة الجدارية “القط العسيري” ليزين الديكورات الحديثة، بعد أن سُجِّل في اليونسكو عام 2017 ضمن التراث العالمي، هذا الفن التقليدي القادم من منطقة عسير – الذي كانت تمارسه النساء في تزيين المنازل – اكتسب اهتمامًا جديدًا؛ إذ أطلقت برامج وطنية لإحيائهhttps://www.okaz.com.sa/culture/culture/2199224، وتحوّلت القرى القديمة التي ازدهر فيها إلى معارض فنية مفتوحة للزوار. كذلك الحال مع "فن السدو" النسيج البدوي التقليدي الذي سُجِّل في اليونسكو عام 2020، ودُمجت نقوشه الملونة في تصميم شعار رئاسة السعودية لمجموعة العشرين 2020 لإبراز الالتزام بـ«رؤية 2030» والتشبث بالموروث الثقافي، ولا يقتصر الإلهام على المعالم البصرية فحسب، بل يمتد إلى الحرف اليدوية؛ فنجد تصميم قطع أثاث وإكسسوارات منزلية تحمل لمسات من فنون الخط العربي والزخارف الإسلامية التي تشتهر بها المملكة. 
  • لقد استطاع مصممو الموضة السعوديون تحقيق حضور عالمي بفضل هذا المزج المبدع بين التراث والحداثة. على سبيل المثال، المصمم محمد آشي بات أول سعودي وخليجي ينضم رسميًا إلى أسبوع الكوتور الباريسي، بتصاميم تجمع بين الفخامة العصرية وروح الثقافة المحلية، ومثل آشي، قدم المصمم يحيى البشري للعالم فستانًا للأميرة ديانا مزج فيه التطريز العربي بالتصميم الحديث، هذه النجاحات تؤكد أن الهوية الثقافية السعودية أصبحت مصدر إلهام في التصميم السعودي المعاصر، حيث يستمد المبدعون من تراثهم الغني رؤىً جديدة ويقدمونها بحلة تناسب أذواق الجمهور المحلي والعالمي. 


الإلهام في الأدب والكتابة السعودية 

  • كانت ولا تزال الثقافة السعودية معينًا ثريًا للأدباء والكتّاب على مر العقود. يستلهم الكتاب السعوديون من الموروث الشعبي والتاريخي في سرد القصص والروايات، مما يضفي على أعمالهم أصالة وعمقًا يرتبطان بالبيئة المحلية. فمن اللغة العربية وجمالياتها التي تعد ركنًا أساسيًا في الهوية الثقافية، إلى اللهجات السعودية المتنوعة التي تتسلل إلى الحوار السردي، نجد أن الأدب السعودي الحديث يحمل روح المكان والتراث. العديد من الروايات السعودية تستمد حبكتها من قصص مستوحاة من المجتمع والعادات والتقاليد المحلية؛ كتناول حكايات الصحراء والبادية، أو توثيق تحوّلات المجتمع في القرية والمدينة، أو إبراز دور العناصر التراثية في الحياة اليومية. على سبيل المثال، برزت في السنوات الأخيرة أعمال أدبية تاريخية تُظهر جوانب من تاريخ المملكة وتراثها الغني، وأسهمت في تعزيز الهوية الثقافية السعودية، روايات مثل العاصوف” – التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني لاحقًا – صوّرت حياة المجتمع النجدي في سبعينيات القرن الماضي بتفاصيلها الثقافية؛ من عمارة البيوت الطينية التقليدية وملابس تلك الفترة، إلى العادات الاجتماعية مثل جلسات الحارة الرمضانية. وكذلك رواية "شارع الأعشى" للكاتب أحمد الملك، التي جسّدت جانبًا من تاريخ الرياض القديم ضمن قالب حكائي أدبي، قبل أن تتحول هي الأخرى إلى عمل درامي. 
  • الملاحظ اليوم وجود حراك أدبي يعيد إحياء التراث بصيغ إبداعية جديدة، إلى جانب مبادرات رسمية تدعم هذا التوجه. فعلى سبيل المثال، أعلنت وزارة الثقافة السعودية عام 2023 عامًا للشعر العربي، في خطوة تهدف للاحتفاء بالشعر بوصفه أحد مكونات الموروث الثقافي العربي والسعودي، كما تُنظَّم معارض وفعاليات كمعرض “رحلة الكتابة والخط” للاحتفاء بتاريخ الخط العربي وفنون الكتابة عبر الحضارة، مما يلهم الكتّاب والفنانين لإدخال جماليات الخط واللغة في أعمالهم الأدبية والتشكيلية. وإدراكًا لقيمة الأدب في حفظ الذاكرة الثقافية، أطلقت هيئات ومؤسسات مثل هيئة الأدب والنشر برامج لتشجيع الروائيين الشباب على توظيف قصصهم في إبراز الهوية المحلية، وتمويل مشروعات ترجمة الأدب السعودي إلى لغات عالمية لنقل هذه التجارب المستوحاة من الثقافة السعودية إلى القراء حول العالم. 
  • على صعيد الانتشار والإنتاج، يشهد الأدب السعودي نموًا ملحوظًا كمًا ونوعًا. فبحسب تقرير لمكتبة الملك فهد الوطنية، مُنح أكثر من 6000 كتاب سعودي ISBN خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2022 فقط، في دلالة على ازدياد الإصدارات الأدبية والفكرية. كما يزيد عدد دور النشر عن 520 دار نشر محلية، كثير منها يعمل على نشر الروايات والدواوين الشعرية والبحوث المهتمة بالثقافة والتراث. ولعل أحد المؤشرات البارزة على مكانة الموروث في الأدب السعودي المعاصر، هو توجّه صنّاع الدراما إلى اقتباس الروايات السعودية وتحويلها إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية. فقد أعلنت جمعية الأدب المهنية في منتصف 2025 عن ترشيح قائمة طويلة تضم 25 رواية سعودية من أصل 100 عمل سردي، بهدف تحويلها إلى أفلام سينمائية، هذه الروايات تغطي طيفًا واسعًا من المواضيع المستوحاة من الواقع المحلي، كالرواية الاجتماعية والتاريخية والبوليسية وحتى الفانتازيا المرتبطة بالأساطير الشعبية، ما يؤكد ثراء المحتوى المُلهم الذي تقدمه الثقافة السعودية للأدب. ولا يخفى أن أعمالًا سعودية حصدت جوائز عربية ودولية مرموقة خلال السنوات الأخيرة – مثل فوز الروائي محمد حسن علوان بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2017 – مما يدل على أن الأدب السعودي عندما يستنطق ثقافته الخاصة يصل إلى العالمية بقوة تأثيره. 


الإلهام في السينما السعودية 

  • شهدت السينما السعودية نهضة مذهلة منذ السماح بالعروض السينمائية عام 2018، وانطلقت موجة من الأفلام التي تستلهم ملامح المجتمع والثقافة المحلية. لم تكن عودة صالات السينما مجرد حدث ترفيهي، بل مثلت “استهلالًا لعهد فني جديد” رفد الحركة السينمائية بطاقات إبداعية شابة، وكل فيلم سعودي تقريبًا أخذ على عاتقه إبراز جانب من الهوية الثقافية السعودية، حتى قيل إن الأفلام السعودية أصبحت مرايا تعكس تنوّع المجتمع وموزاييك الثقافة في مختلف مناطق المملكة، فعلى سبيل المثال، سلط فيلم سعودي قصير من منطقة الجنوب الضوء على فن الخطوة الشعبية في عروضه، بينما جسّد آخر بيئة الصحراء الشمالية بما تحمله من رمزية البداوة. هذا التنوع الثقافي بين الحضر والبادية، والساحل والصحراء، صار مادة دسمة يتناولها المخرجون لعرض “فسيفساء النسيج الاجتماعي والثقافي” للمملكة، ويتوقع النقاد أن يستمر هذا الاتجاه لعشرات السنين القادمة مع نضوج التجربة السينمائية المحلية. 
  • لقد أثمرت جهود صناع الأفلام السعوديين عن إنجازات ملفتة خلال وقت قصير. ففي عام 2024 حصدت عدة أفلام سعودية جوائز عربية ورُشِّحت لمهرجانات عالمية مرموقة، إلى جانب تحقيقها إيرادات متصاعدة تعكس نجاح هذا القطاع، من تلك الأعمال فيلم "مندوب الليل"» الذي فاز بجائزة الوهر الذهبي في مهرجان وهران السينمائي، وفيلم "نورة" الذي مثّل السينما السعودية لأول مرة في مهرجان كان السينمائي الدولي. كما شاركت أفلام سعودية حديثة في مهرجانات القاهرة وبرلين وفينيسيا، حاملةً بصمة ثقافية خاصة نالت إعجاب النقاد. فمثلاً، فيلم "وجدة" للمخرجة هيفاء المنصور (2012) حقق شهرة عالمية بقصته البسيطة المستوحاة من حياة فتاة بالرياض وشغفها بركوب الدراجة في مجتمع محافظ – في إشارة إلى التغير الاجتماعي – وكان هذا الفيلم أحد أوائل الأعمال التي قدمت صورة صادقة عن المجتمع السعودي للعالم وفازت بجوائز دولية. أيضًا فيلم  بركة يقابل بركة  (2016) قدّم بطريقة كوميدية رومانسية لمحة عن حياة الشباب في جدة وتقاليدها الاجتماعية، وعُرض في مهرجان برلين، مؤكدًا قدرة القصص المحلية على الوصول لجمهور عالمي. ولم تكن هذه النجاحات لتتحقق لولا أن صنّاع الأفلام قدموا رؤى أصيلة تتفادى القوالب النمطية، مع حرصهم على “تسليط الضوء أكثر على الثقافة السعودية وتنوع مناطقها” كما تشير استراتيجيات التطوير الثقافي ضمن رؤية 2030. 
  •  فالرؤية الوطنية تدعم بثّ روح التراث والتاريخ في المحتوى الإبداعي لتعريف العالم بثقافة المملكة الغنية وتغيير الصور النمطية المغلوطة. 
  • من جانب آخر، يجدر بالذكر كيف توظّف السينما السعودية العناصر الثقافية كالأزياء والموسيقى في أعمالها لتعزيز المضمون. فكثير من الأفلام اهتمت بإبراز الملابس التقليدية السعودية حسب سياق القصة؛ نرى ذلك في فيلم تاريخي يرتدي أبطاله الدقلة والبشت، أو في عمل درامي معاصر تظهر فيه المرأة السعودية بالعباءة في مواضع تعكس مكانتها المتطورة في المجتمع. أما الموسيقى، فباتت هي الأخرى ساحة للتلاقح بين القديم والجديد؛ حيث استعان موسيقيون شبان بإيقاعات العرضة النجدية وطبول العرضة السعودية (رقصة السيف الشهيرة) ومزجوها مع توزيع حديث في مقدمات الأفلام وأغانيها التصويرية. ومن الجدير بالذكر أن «العرضة السعودية» نفسها أدرجتها اليونسكو عام 2015 ضمن التراث العالمي غير المادي بوصفها فنًا أدائيًا يمثل الهوية الوطنية، وقد شاهد العالم لمحات منها في احتفالات المملكة ومناسباتها الرسمية، مما ألهم مخرجين لتضمين مشاهد العرضة والموسيقى الشعبية في أعمالهم كرمز للفخر والإرث الوطني. وبالمثل، وظّف فيلم مثل «حد الطار» (2020) فنونًا شعبية كفن السامري النجدي في سياق درامي مؤثر يصور صراع الحفاظ على التقاليد في وجه الحداثة. 
  • هذا الحراك السينمائي المحتفي بالثقافة أثمر أيضًا إطلاق منصات ومهرجانات تحتفي بالإبداع المحلي. ففي عام 2021 انطلق مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في جدة، جامعًا أفلامًا سعودية وخليجية وعربية، العديد منها يستلهم قصصًا سعودية أو يصوّر في مواقع تراثية كمنطقة جدة التاريخية ومدينة العلا التراثية. وأصبح المهرجان حدثًا سنويًا يروج لصناعة السينما السعودية ويشجع الإنتاج المشبع بروح الثقافة المحلية. كذلك دعمت هيئة الأفلام السعودية إنتاج أفلام توثق كنوز المملكة الطبيعية والأثرية – كفيلم وثائقي عن فن الصقور والقنص التقليدي، أو آخر عن حياة البادية – إيمانًا بأن “نقل الواقع الثقافي المتقدم الذي تعيشه المملكة” هو رسالة إبداعية بحد ذاتها. 


خاتمة 

  • في الختام، يتضح أن الثقافة السعودية مصدر إلهام لا ينضب لمختلف مجالات الإبداع اليوم. فمن التصميم الذي ينهل من زخارف التراث وألوانه، إلى الأدب الذي يحمل عبق اللهجة المحلية وحكمة الموروث الشعبي، وصولًا إلى السينما التي تروي حكايات المجتمع السعودي بتنوع مناطقه وعاداته – نجد أن الهوية الثقافية للمملكة أصبحت علامة فارقة تضفي فرادة وتميزًا على هذه الأعمال. إن الالتفات إلى الكنوز الثقافية المحلية لم يمنح المبدعين مادة غنية فحسب، بل أكسب الإنتاج السعودي هويّة خاصة في الساحة الإقليمية والعالمية. ومع استمرار دعم رؤية المملكة 2030 للمشاريع الثقافية والفنية، وتركيزها على إبراز التراث الوطني وتعزيز القوة الناعمة للمملكة، فمن المتوقع ازدهار المزيد من الأعمال الإبداعية المستوحاة من الثقافة السعودية في السنوات القادمة. بذلك تُثبت المملكة أن التمسك بالجذور الثقافية يمكن أن يمضي جنبًا إلى جنب مع التجديد والابتكار، ليولد نتاج فني وأدبي يتفاعل معه الجمهور محليًا وعالميًا. الثقافة السعودية بكل مكوناتها كانت وستظل مصدر إلهام متجدد يلهم المصممين والكتاب والمخرجين لصناعة مستقبل إبداعي مشرق، أساسه الماضي العريق وروحه الحاضر المزدهر. 


المصادر 

  • جريدة الرياض – «تحويل الرواية للسينما.. صناعة ثقافية مستدامة» – 10 ديسمبر 2024. 
  • مجلة القافلة – «الأفلام السعودية.. مرايا للمجتمع؟» – أبريل 2024qafilah.com
  • صحيفة اليوم – «المصممة اليوسف: التراث السعودي كنز يجب استثماره» – 5 مارس 2023alyaum.comalyaum.com
  • موقع سعوديبيديا – مقالة «القط العسيري» – 2017saudipedia.comsaudipedia.com
  • موقع سعوديبيديا – مقالة «السدو» – 2020saudipedia.com
  • مجلة المجلة – «“هيئة الترفيه” وخطوات ملموسة لنقل السينما السعودية إلى المنافسة العالمية» – 6 مايو 2025majalla.commajalla.com
  • صحيفة الشرق الأوسط – «25 رواية سعودية للقائمة الطويلة في مشروع تحويلها إلى السينما» – 20 يوليو 2025aawsat.com
  • وكالة الأنباء السعودية (واس) – تقرير عن إدراج العرضة السعودية في اليونسكو – ديسمبر 2015saudipedia.com